جـريمـة وزيـــر
رواية بقلم: د.نبيـل فـاروق
الجــزء الأول
مكتب خاص، في رئاسة الجمهورية؟ -
هتف عزت، مساعد الدكتورة نهير، الطبيبة الشرعية، وإخصائية مسرح الجريمة بالعبارة، في دهشة، أقل ما يقال عنها إنها مذعورة، وهو يحدِّق في وجه هذه الأخيرة في ارتياع عجيب، أجبرها على أن تبتسم، وهى تقول: نعم.. هو ما سمعته بالضبط.. لقد تلقيت الاستدعاء، منذ ساعة واحدة، والمفترض أن نتسلم عملنا، بعد ساعة واحدة أخرى
اتسعت عيناه في هلع، وهو يهتف: نتسلم؟!.. من تعنين بصيغة الجمع، في عبارتك هذه؟
مالت نحوه، مجيبة، وابتسامتها تتسع: لقد اخترتك، مساعداً دائماً لي هناك
تضاعف اتساع عينيه، وجفَّ حلقه، وهو يقول: في القصر الجمهوري؟
أومأت برأسها إيجاباً، فامتقع وجهه بشدة، وبدا وكأن ساقيه تعجزان عن حمله، وهو يبحث عن مقعد قريب، بأيد مرتجفة، فأسرعت تجذب مقعداً، وتدفعه نحوه، ليلتقطه، ويلقي جسده عليه، وهو يلهث، قائلاً، في صوت أقرب إلى البكاء: لماذا يا دكتورة؟!.. لماذا وضعتني في هذا الموقف؟
قالت في دهشة: أي موقف؟!.. كنت أتصوَّر أن هذا سيسعدك!.. انتدابنا للعمل في القصر الجمهوري، يعني بدلات أكثر، و
قاطعها في عصبية: وحذر أكثر، وتوتر أكثر، وأمن، وحراسة، وتصاريح خاصة، وتحركات محسوبة.. لا.. إنني أفضل وظيفتي الحالية
شعرت بقلق حقيقي، وهو تقول: هل تعني حقاً أنك تفضل أن
......
[color=#00ff00]*******
قبل أن تطرح سؤالها بالكامل، فوجئ الاثنان بمدير المصلحة يقتحم معملهما، دون أن يطرق الباب كعادته، وهو يقول في عصبية، ليس لها ما يبررها: أين أنت يا دكتورة نهير.. سيارة رئاسة الجمهورية تنتظركما بالخارج، ولقد أرسلوا أحد رجال الأمن الخاص لاصطحابكما
عادت عينا عزت تتسعان، ووجهه يمتقع، وهو يرتجف، قائلاً: أرأيت؟
نقلت نهير بصرها، بينه وبين المدير، قبل أن تقول لهذا الأخير، في شيء من العصبية: ولماذا العجلة؟!.. المفترض أن
قاطعها صوت حازم قاس، يقول في صرامة: المفترض أن ننصرف معاً، في أسرع وقت ممكن
التفتت إلى مصدر الصوت بحركة حادة، فارتطم بصرها برجل أمن طويل القامة، عريض المنكبين، حاد النظرات، استطرد بنفس الصرامة، وهو يعقد كفيه خلف ظهره: مكتب فخامة الرئيس في انتظارنا.. فوراً
التقى حاجبا نهير في توتر، وهي تتساءل: ولماذا فوراً؟!.. المفترض أنه مكتب دائم
لم يجب رجل الأمن تساؤلها، ولكن الجواب جاءها، عندما واجهت الموقف الفعلي، الذي تم انتدابها من أجله، للعمل في القصر الجمهوري
ففي إحدى الوزارات، حدثت جريمة قتل
المسئول المالي للوزارة، أطلقت على رأسه رصاصة
في مكتب الوزير
إلى هنا، والجريمة، على الرغم من غرابتها، ممكنة الحدوث، لولا أمر واحد
أن المتهم بالقتل هنا هو الوزير
شخصياً..
[color:4865=#00ff00:4865]*******
على الرغم مما يمكن أن يثيره هذا، من دهشة واستنكار، ومما أصاب عزت من عصبية ظاهرة، بدت نهير متمالكة جأشها تماماً، وهى تقول لرئيس الديوان، الذي شرح لها الموقف: قبل فحص مسرح الجريمة، أريد معرفة ملابسات الحادث بالضبط
كان من الواضح أن رئيس الديوان شديد التوتر، وهو يقول: روى شهود الحادث أن المسئول المالي للوزارة بدا شديد العصبية هذا الصباح، وطلب مقابلة الوزير، قبل أن يبدأ برنامجه اليومي، أو يطالع بريده، على عكس المألوف، وكان يلوِّح بملف في يده، أشار إلى أنه سيقلب الدنيا كلها رأساً على عقب، وعندما سمح له الوزير بالمقابلة، اصطحبه مدير المكتب إلى حجرة الوزير، وسمع الجالسون في الخارج نقاشاً حاداً، أعقبه دوي رصاصة، فاندفعوا إلى الحجرة، ليجدوا المسئول المالي غارقاً في دمه، والوزير خلف مكتبه، وإلى جواره مدير مكتبه، يمسك مسدساً، يتصاعد الدخان من فوهته
غمغم عزت في عصبية: أظن الأمر يبدو واضحاً، و
قاطعته نهير بإشارة صارمة من يدها، وهي تقول في حزم: الأفضل ألا تتسرَّع بآراء مبكرة، قبل معرفة كافة التفاصيل والملابسات
أشار إليها رئيس الديوان، قائلاً: بالضبط.. فالمشكلة أن مدير المكتب ألقى المسدس من يده، فور دخول رجال الأمن والزائرين لحجرة الوزير، وهتف يتهم الوزير نفسه بقتل المسئول المالي، وأشار إلى أوراق تلتهمها النيران، في سلة المهملات، وأكَّد أنها ذلك الملف، الذي كان يحمله المسئول المالي، والذي كان يحوي ما يثبت فساد الوزير، وتقاضيه ملايين الجنيهات، على سبيل الرشوة
التقى حاجبا نهير أكثر، وهي تغمغم: والمسدس يمتلكه الوزير بالطبع
ارتفع حاجبا رئيس الديوان، وهو يهتف في دهشة مبهورة: كيف استنتجت هذا؟
هزت كتفيها، قائلة: تتابع الأحداث المنطقي أوحى به
أومأ برأسه موافقاً، وقال: الوزير أنكر التهمة بالطبع، وقال: إن المسدس كان على سطح مكتبه، وأن المسئول المالي اتهم مدير مكتبه، وليس هو، بالفساد والرشوة، فاختطف مدير المكتب الملف، وألقاه في سلة المهملات، وأشعل فيه النار، وهنا اشتبك معه المسئول المالي، محاولاً إنقاذ الملف، فاختطف المسدس، وأطلق النار على رأسه، وأرداه قتيلاً
بدا الشك على ملامح عزت، ونقل بصره في عصبية، بين نهير ورئيس الديوان، فقالت الأولى، دون أن تشي ملامحها، بما يدور في ذهنها: وهل اعتاد الوزير وضع مسدسه على سطح مكتبه؟
تردد رئيس الديوان لحظة، قبل أن يجيب: يقول: إنه يقوم بتنظيفه مرة أسبوعياً، ولقد تصادف الموعد مع الواقعة، ومدير مكتبه، على الرغم مما يتهمه به، يؤيد هذا، ولكنه يصر على أن الاتهام كان موجهاً إلى الوزير شخصياً، وأنه الذي اختطف الملف، وأشعل فيه النار، وأطلق الرصاص على المسئول المالي، عندما حاول منع هذا، ثم ألقى إليه المسدس، فالتقطه بحركة غريزية، لحظة اقتحام الآخرين للمكان، ليروه وهو يحمله، والدخان يتصاعد من فوهته
*******
تنهَّدت نهير، وهي تدير القصتين في رأسها، وتحاول أن تستنبط منهما حقيقة ما حدث
فمهنتها علمتها أنه من السابق لأوانه استبعاد أي حدث، باعتباره غير منطقي
كل شيء يمكن حدوثه، لو توافرت الظروف المناسبة
كل شيء..
وكل شخص يمكن اتهامه، مهما بلغ منصبه، أو موقعه، أو جاهه
فليست كل جريمة وليدة تخطيط وتدبير وإعداد وتربص
معظم الجرائم وليدة اللحظة
العاطفة..
الانفعال..
أو الغضب..
والروايتان ممكنتا الحدوث
الوزير قد يفقد أعصابه، ويقتل المسئول المالي، الذي كشف فساده بالأوراق والمستندات، وهدد مستقبله السياسي كله، وعرضه للانتقال، في لحظة واحدة، من ذوي الجاه والسلطة، إلى خانة الأفاقين واللصوص
ومدير المكتب قد يفعلها، عندما ينكشف أمره فجأة أمام الوزير، ويواجه مصيراً لا يدريه
كلاهما لديه الدافع.. والفرصة، والسلاح
[color=#00ff00]*******
لابد إذن من معاينة مسرح الجريمة -
نطقتها نهير في حزم، فوافقها رئيس الديوان بإيماءة من رأسه، وهو يقول: هذا ما أمر به فخامة الرئيس، الذي منحك صلاحيات كاملة، للتعامل مع الموقف، وسأصطحبك بنفسي إلى الوزارة، حيث ينتظروننا جميعاً
مرة أخرى، امتقع وجه عزت، وانكمش على نفسه، وهو يسير خلفها، ويجلس إلى جوارها صامتاً، في سيارة الرياسة، التي تنقلهما مع معداتهما إلى القصر الجمهوري
وعندما شعرت نهير بارتجافته، مالت نحوه، تسأله هامسة: ماذا بك؟
أجابها في همس مضطرب: لماذا تصرين على إغراقنا في ذلك المستنقع أكثر وأكثر؟
هتفت مندهشة، في صوت خافت: إغراقنا؟!.. أنسيت أنه عملنا، وأنهم قد انتدبونا هنا، و
قاطعها في عصبية هامسة: وسنكشف اللغز.. أنا واثق من هذا
تراجعت في دهشة أكثر، فاستدرك: وهذا ما يخيفني
غمغمت: يخيفك
هتف: بالتأكيد.. هل تتصورين أنه من السهل، في مثل هذا النظام، أن نكشف فساد وزير؟
قالت في صرامة هامسة: لست أتحدَّث هنا عن فساد، وإنما عن جريمة قتل
هز رأسه في عنف: الاثنان يتساويان عند الحكومة؛ فالوزراء آلهة، في نظرها ونظر العامة، والآلهة لا تخطئ.. ولا تعاقب أيضاً لو أخطأت.. والحكومة لن تسمح للناس بمعرفة أخطاء وزرائها، بدءاً من أصغر خطأ، وحتى أكبر جريمة
قالت في حدة: حتى القتل
أجابها في مرارة عصبية هامسة: وما الفارق؟!.. هل تتصوَّرين أن ما يفعلونه بنا، عبر قراراتهم الخاطئة، المتسرِّعة، النابعة في معظمها من انفعالات وقتية، أو أغراض أو منافع شخصية، والتي قد تفسد مجتمعاً بأكمله، ليست مساوية للقتل؟!.. من يحاسبهم عليها؟!.. من يلومهم حتى، على قرار واحد سخيف؟!.. راجعي تاريخنا كله، منذ قيام ثورة يوليو، وستدركين أن هذا لم يحدث، ولو مرة واحدة.. هل تتوقعين أن يبدأ بك؟
انعقد حاجباها، وهي تقول: ما أتوقعه، هو أن نؤدي عملنا، ثم نترك الأمر بعدها لله عزَّ وجلَّ
هزَّ رأسه في قوة، وهو يقول: لو أننا سنتركه لله سبحانه وتعالى، لما خشيت، فالله يحكم بالعدل، ولكننا سنتركه أيضاً للحكومة، وهي ليست كذلك.. إنها تحكم بما يحقق مصلحتها، وفي العصر الحالي، لست أظن مصلحتها في كشف الفساد
تدخل رئيس الديوان، في هذه اللحظة، وهو يقول في حدة: فيم تتهامسان طوال الوقت؟
انكمش عزت في مقعده، في ذعر أكثر، في حين تنحنحت نهير، مجيبة: في شئون العمل
اعتدل يقول في صرامة: أتعشم أن تكونوا قد انتهيتم، فها هو ذا مبنى الوزارة أمامنا
[color:4865=#00ff00:4865]*******
لم تمضٍِ دقائق خمس، على عبارته هذه، حتى كان ثلاثتهم يقفون في مكتب الوزير، الذي اكتظ برجال الأمن، وموظفي الوزارة، والوزير نفسه، ومدير مكتبه، وجثة المسئول المالى، الذي سقط على ظهره، وثقب واضح في منتصف جبهته، تجمدت حوله بقعة من الدم، وعلامات الدهشة والذعر مازالت مرتسمة على ملامحه
وفي صرامة، قالت نهير: هذا العدد كفيل بإفساد أي دليل هنا
سرت همهمة معترضة من الموجودين، فقال رئيس الديوان بلهجة آمرة: فليغادر الكل الحجرة فوراً
أضافت نهير بنفس الصرامة: فيما عدا المتهمين
رفع الوزير رأسه بحركة حادة، وهو يقول: المشتبه فيهما
هزت كتفيها، دون أن تعدل عبارتها، فجرجر رجال الأمن أقدامهم، مع موظفي الوزارة، وخرج الكل من الحجرة في تخاذل، ومع خروج آخرهم، أشارت نهير إلى عزت بإغلاق الباب، ثم التفتت إلى الوزير ومدير مكتبه، وعقدت ساعديها أمام صدرها، وهى تقول: أحدكما يُدرك بالطبع، أن وجود كل هذا العدد من الناس، في مسرح الجريمة، كفيل بإتلاف وإفساد أي دليل
قال الوزير في حدة: لاحظي أنك تتحدثين إلى وزير
أجابته في صرامة: في الوقت الحالي، أواجه مشتبهاً فيه، في جريمة قتل
هب من مقعده بحركة حادة، هاتفاً: أنا أعترض
ومع حركة الوزير، انعقد حاجبا نهير في شدة
فهنا فقط، أدركت من القاتل..
وبالدليل
يتبع