لعل أشهر بيت قيل في التذمر من الصوم والفرح بانتهائه هو قول أحمد شوقي:
رمضان ولى هاتها يا ساقي ..... مشتاقة ٌ تسعى إلى مشتاقِ
ولا يمكن بالطبع أن نتهم أحمد شوقي بضعف إيمانه وهو الذي كتب أجمل المدائح النبوية (ولد الهدى). لكن هناك دائما فئة تتضرر من الصوم بفعل سطوة العادة، والعادات - كما يقال - قاتلات.. ومن هذه الفئة؛ فئة المدخنين، وفئة شاربي الخمور، وفئة مدمني القهوة والشاي، فهؤلاء ينتظرون الأذان بتلهف لكي يدخنوا سيجارة أو يحتسوا القهوة.
وإذا كان هؤلاء ضحية التعود المميت فإن هناك فئات أخرى لها نوادر في الصوم ومفارقات، كالبخلاء وكالأطفال... فمن التراث مقولة أبي نواس الشهيرة في هجاء الفضل وذمه بالبخل:
رأيتُ الفضلَ مكتئبًا ..... يناغي الخبز والسمكا
فأسبلَ دمعَـه لمـا ..... رآنـي قادمـًا وبكى
فلمـا أن حلفتُ لـه ..... بأني صائـمٌ ضحكا
ويحفل التراث بطرائف الحمقى، ومن هذا في الصيام: ( قيل لبعض الحمقى كيف صنعتم في رمضان؟ فأجابوا: اجتمعنا ثلاثين رجلاً فصمناه يوماً واحداً )
أما في ممارساتنا السنوية الرمضانية فلا أعتقد بأن أحدنا لم يتعرض لطرفة رمضانية.. ففي إحدى السفرات صيفاً، أدركنا رمضان ونحن مجموعة من الفتيات والنسوة العمانيات في المغرب، وإذا كان موعد الإفطار في عمان؛ والمشرق العربي عموماً؛ يحين في السابعة أو بعدها بقليل صيفاً، فأن المغرب العربي يمتد به الموعد إلى العاشرة مساءً، وكنا ننظر إلى الشمس في التاسعة مساءً نجدها تسخر منا، فهي مشعة بقوة ومتواجدة في السماء بهمة ونشاط، ونحن قد جفَّ الريق والعود منا، فلم نعتد على هذا الطول المسرف للنهار... إحدى الصديقات واجهتنا مهددة للجميع ( شوفوا أنا بصراحة سأفطر على توقيت عُمان، وسأقصر في الصوم فأنا عندي عذر، لأني مسافرة.. ضحكنا على الحكمة المقلوبة، وقلنا لكن القصر في الصلاة فقط.. أصرت؛ وفي الصوم أيضا.. حاشا لله هذا ما فطور هذا سحور.. ولما تكالبنا على لومها قالت : ( إذن أعذروني بنام يوميا ولا تصحوني إلا عند السحور "تقصد أذان المغرب".)
ولأن الجزيرة العربية لا تطاق صيفاً من شدة الحرارة، ومن ثم العطش، نتيجة لامتداد الوقت، ولأن الدين يسر لا عسر فيه فأن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يعودون الصبية الصغار على الصوم تدريجياً إلى أذان الظهر ثم يفطرونهم.
أما هذه الأيام فالصغار عقولهم أكبر من عقول بعض الكبار بحكم معطيات الزمن.. ولهذا يصرُّ بعضهم على الصوم والتشبه بالكبار مهما كلفه ذلك. وهذا ابني الصغير يصوم في عز الصيف عندما كان في الصف الأول الابتدائي (ست سنوات)، وحاولت أن أجعله يفطر بدون جدوى، وكنت أراه يتسحب عند الساعة الثالثة إلى المطبخ فأغض عنه الطرف إلى أن أخبرتني المربية وهي تضحك (مدام : محمد يأخذ شوية أكل ثم يختبئ تحت السلم ويأكل) قلت: أتركي له الأكل كل يوم وتظاهري بأنك لا ترينه. ظل ابني الصغير يومياً يفعل فعلته، ونحن نكيل له المديح بأنه رجل كبير ويصوم مثلنا.
أما نحن أهله الكبار فلقد رزقنا الله بأب شديد الطيبة غزير الحب واسع الأفق، وكان رمضان الشتاء أقسى وأشد إيلاماً بالنسبة لنا في الكويت حيث تصل درجة البرودة أحياناً للتجمد ويكون الفراش الدافئ حضناً ومتعة كبرى لا يمكن أن تعادلها متعة، وكنا نتصامم عند السحور عن نداء عمتي لنا، وأخي الكبير وهو يشدّ اللحاف حتى نسمع صرخة أبي: دعوهم ينامون.. فنومهم عبادة، ماذا يفعل الله بصوم هؤلاء الذين لا يعرفون حتى الاغتسال جيداً... وكان رحمه الله بعد هذه الجملة يضحك وينحى باللائمة على الكبار لصغر عقولهم وإزعاجنا من نومتنا الدافئة رغم أننا كنا أكبر بكثير من الأطفال الذين يصومون الآن بتكليف غير إنساني وغير واعٍ من الأهل كنوع من التفاخر بأن ابنه يصوم وأن تربيته بذلك مثلى.
ومن الذكريات الرمضانية تبادل الأطباق بين الجيران، فقبل الفطور بساعة تقريبا نتراكض وتتطاير الأطباق في الدروب وكان بعضنا في بداية الصوم أي في التاسعة وما بعدها بقليل.. وكانت كل الأطباق تأتي ممتلئة إلا طبقاً واحداً دائماً يأتي منتصفاً أو أقل... ولأنني كنت أشك بصوم أختي الصغيرة تبعتها ذات يوم دون أن تشعر بي فإذا بها تلتقي هي وصديقتها أمام ساتر لبناء جديد تأكلان النصف من كل طبق ويأتي الطبقان ناقصين إلى البيوت.. خبأتُ الأمر إلى الوقت المعلوم.. ذات مرة طلبت منها شيئاً فرفضتْ بعناد شديد قلتُ سأفضحك أنت وفلانة لقد رأيتكما وأنتما تفعلان فعلتكما من يومها أصبح لدي كرت تهديد لم يبطل مفعوله إلا عندما كبرتْ أختي وصامت بصدق.
أما ابن الجيران المراهق الكبير في السن فكان يرمي أمام بيتنا بعلب التونة بعد أن يتغذى سراً بها.. ذات يوم جرحته العلبة جرحا غزيرا وهو يفتحها بالسكين فصرخ طلباً للنجدة من يومها أصبح اسمه "أبو تونة".. أما صديقتي التي اعتادت أن تأكل ما تشاء طوال الطريق ثم تدهن لسانها بالطباشور المسروق من المدرسة لتثبت لجدها الذي ضربها بالخيزرانة أول يوم وثاني يوم لأنه عرف أنها فاطرة، وعندما سألته كيف عرفت إني فاطرة قال لأن لسان الصايم يكون أبيض اللون أما لسانك فأحمر.. من يومها تعودتْ صبغ لسانها بالطباشير، فتأخذ قبلة من الجد وعشرين فلس مكافأة على صومها.
أما أخي الكبير فكان يأكل ما يشاء ثم يقول: ( أوه، اللهم أني صائم، وأنا نسيت وأنت يا رب أطعمتني ) إلى أن صاحتْ العصا على ظهره من قبل الوالد فترك النسيان، وذكرته العصا بأنه صائم بحق..
إنها طرائف لا تعد ولا تحصى للصغار والكبار، فما بال هذا الزمن الواضح في قبحه تكاد الطرائف تختفي منه، والحدود الفاصلة بين الصغار والكبار تتلاشى فكلهم يفتون وكلهم علماء دين وكلهم على درجة كبيرة من الوعي.. درجة لا شك بأنها تغيظ.. تغيظ جداً جداً.
للدكتوره سعيده بنت خاطر الفارسي